شوفوني تمشيت..
د. أميرة علي الزهراني - مجلة اليمامة
تأمل السيارات بجوارك .. ستجد الأفراد الذين يستقلونها مشغولين عن الالتفات للشوارع والأبنية والإحساس بجمال الطقس، بما فيهم سائق السيارة.. ربما هم يخبرون زملاءهم وأفراد مجموعاتهم الكثيرة على البلاك بيري والواتس آب بأنهم في الطريقة إلى التنزه والاستمتاع، رغم أنهم لا يستمتعون فعلياً بالأجواء!! ولو فكر سائق نذل باختطاف الفتاة التي تركب معه، أو أنه أخطأ بالطريق، لما عرفت الفتاة المشغولة بشاشة الجوال إلا من صوت ارتطام إطارات السيارة على الحصى وهي خارج المدينة!!!
تأمل الأفراد المتحلقين حول طاولة واحدة في المطعم، حالة من النجومية لأطباق الأرز والمشويات والأسماك والسلاطات.. تسلط كاميرات الجوالات عليها، وعلى الآخرين الانتظار مهما اشتد جوعهم لحين الإفراغ من التقاط صور المائدة وإرسالها بالتالي إلى أفراد مجموعاتهم على الجوال ...
تأمل المتزوجين في مقهى رائق وهادئ .. مشغولان طوال الوقت بالجوال، لا بد أنه أخبر زملاءه عن مقهى رومانسي جميل (لا يفوتكم) !!! و الأكيد أنها قامت بنفس الشيء لقائمة الأخوات والصديقات بالجوال (جلسة ولا أحلى في مقهى فوق الخيال أنا وأبو ... ) رغم أن الجلسة الرومانسية كانت مع الجوال، وأنهما بالكاد تبادلا حديثاً مقتضبا، أو حتى نظرات مسروقة ..
تأمل تجمعات العائلة في الاستراحات والبيوت، الكل مشغول بالتقاط صور المسبح والجلسات والإضاءات والأطعمة .. حالة استنفار كأنما كتيبة إعلاميين مصورين انتشرت في مكان وقوع جريمة بشعة، أو متحف أثير يفتح أبوابه للمرة الأولى... يبعثون بالصور لقائمة الأصدقاء بالجوال، ثم في النهاية ينفردون في جلسة استثنائية خاصة ( أيضاَ) مع الجوال!! لا أحد يتبادل الحديث بحرارة مع أحد ..
تأمل المسافرين .. حالة من الهيجان تندلع بداخلهم نحو الأماكن السياحية الجميلة، يلتقطون الصور طوال الوقت.. يبعثون بها، ثم تنتهي مهمتهم، يرحلون عن المكان دون الاستمتاع الحقيقي بدهشته وجماله ..
تأمل الأمهات في الأعياد والمناسبات، يرصصن صغارهن في انضباط لالتقاط الصور، ثم يهملنهم، فلا يعود يعنيهنّ إذا ما كانوا يلعبون في الشارع، أو أمام خزان المياه المهمل في باحة الدار، إذا ما كانوا بلا ملابس، أو حفاة بلا أحذية، ما دامت صورة جملية لأطفال وديعين مرتبين قد أرسلت لأصدقاء وأفراد المجموعة...
ما عادت هناك عناية بالجانب الإنساني .. كم هم الذين تصلهم كل يوم صور أصدقائهم وأقربائهم وهم يتناولون فطورهم في مقهى جميل، ويقضون نهارهم في شاليه .. وليلهم في جلسة عائلية حميمية.. وإجازاتهم في السفر والاستمتاع .. فيما هم محرومون من كل هذي المتع وكل ذلك الدفء!! وكم هم الأفراد الذين ضجوا واعتصموا أمام أبائهم وأمهاتهم احتجاجاً على بقائهم في البيت أو المدينة لمجرد أن صورة خاطفة وصلتهم من زميل لهم أو قريب في لحظة استمتاع وتنزه خارج البيت أوفي سياحة خارجية!!
من يصدق!!! المجتمع الذي كان مرعوباً من الصورة، غدا مغموراً بها حد الاختناق. ما عادت هناك أسرار للبيوت، فالجوال قادر على فضح كل تحركات العائلة وبالصور، ولا عادت هناك دهشة حقيقية للمتعة، فالنشوة القديمة التي كنا نعرفها ذهبت إلى براعة الصورة التي نغيض بها من حولنا، ولا عادت تجمعات شجرة الأسرة تروي أغصانها الجديدة، لقد أصبح لها حبلاً جديداً ظنته يرويها أكثر من حديث الجدات، ومسامرة الخالات والعمات، وبوح أسرار البنات القريبات، واللعب مع الصغار.. حبلاً طوَّقت به عنقها بسبابتها التي تضرب في كل اتجاه على شاشة الجوال والآيباد. ثم نستغرب، لماذا نشتكي من الاختناق والشعور بالوحدة والاكتئاب، وفقدان السعادة الحقيقية وانعدام الشعور بجمال الحياة من حولنا!!
******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق